كل ما تقدمه لك هذه الصحراء هي إنها تتكرم بدفنك بعد أن تفارقك الحياة من جرآ سعيرها و الظمأ من اللهيب .المنطقة الوحيدة التي لا تجد فيها الصحراء هنا هي الصحراء ذاتها .هي تمتد على مدى البصر .تبلغ أربعين ألف ميل بالتقريب تجاري حدود السودان وتشاد و ليبيا وأم الدنيا (مصر) ،الدول الثلاث المجاورة لإقليم دارفور الغربي من السودان من جهة الشمال والشمال الغربي والغرب . ودارفور هو اكبر الأقاليم بشبه القارة السودانية مساحة وأكثرها سكانا وابعدها من العاصمة الخرطوم ؛ واكثرها فقرا وتخلفا انسانيا واقتصاديا. وابناءه وابناء اقليم كردفان الغربي المجاور رواد الصحراء الى ليبيا الغالب بين سكان السودان الأخريين.
(1) على ظهور الجمال
بين مدنية الكفرة في الصحراء صعيد ليبيا وأم المدائن (الفاشر) أبو زكريا تواصل قديم قدم التاريخ . وشهدت خلال الثورات التي انطلقت من جنوب ليبيا ممثلة في النهضة السنوسية ،تواصلا عهد الدولة الاتحادية الاسلامية في دارفور ثم
الثورة المهدية في الغرب ثم الدولة الدينارية في دارفور تواصلا بين شعبي البلدين . غير أن عام 73 م من القرن الماضي ثورة الفاتح الليبية تضيف لأنجزاها إنجاز فيشهد التواصل شكل جديد. يتعاظم إنتاج النفط في الحقول الصحراوية الليبية ،وتزيد من نسب كمياته المصدرة ، وتزيد دخل المواطن في ليبيا ، فيفتح الطرق للأيدي أجنبية عاملة. ويكون السودان -كعهده رجل إفريقيا المريض وزيل العرب - مصدر العمالة بصفته مخزن البطالة البشرية في القارة وامجتمع العربي.
عام 73م هو العام الذي وجد فيه السودانيون من أقاليم غرب السودان طريقهم إلى مصدر رزق كبير تصوره وحياة أفضل انه الطريق الى الخدمة في ليبيا . مفضلين على الخدمة مسترقين في المشاريع الزراعية في إقليم ما بين النهرين وشرق النهر الأزرق (القضارف) . يتحول الغرابة السودانين من شغيلة (الجنقو جورو) إلى المهاجري (سماكس). لكن عليهم قطع مسافة ألف وستمائة كلم عبر الصحراء القاحلة على طريقة الرحلة عبر درب الأربعين إلى مصر في قديم تاريخ من المملكة الاتحادية بإقليم دارفور.
ليبيا يكون حلم لكل الفقراء في القرى الهزيلة بإقليم دارفور إلا انه مكلف جدا . ففي تلك القرى الفقيرة من لا يملك جملا (سديسا) في هذا لزمن وتكلفة الرحلة الست جنيهات سودانية وزاد كاف من كسرة يابسة وذرة مبللة تعده له النسوة سيموت حلمه بالهجر والانتقال إلى (لوبيا) هذا تنطق بالعامية.
تنتهي الرحلات الداخلية إلى مدينة مليط في الركن الشمالي من إقليم دارفور ، و يتجمع الرحالة المسافرين إلى ليبيا في المدينة الرملية من كل بقاء الإقليم قراها وبواديها ومن كردفان ايضا. على متون جمالهم (السديسة) المعدة للرحلة ياتون. قوافل متعددة تستعد للرحيل. وما بعد مدينة مليط قليلا تعطش الإبل أسبوعان ثم تورد الماء . وتنطلق الرحلة مباشرة عقب مورد الإبل الظامئة وقد امتلأت كروشها وحملت على ظهورها ايضا قنن وقراب .
ومليط هي من لها التحية في أشعار الشعر السوداني البدو محمد سعيد العباسي وهو يدعوا الجميع لواديها ذو الجنات . و ما أجمله من وادي . فبه المنظر العجب . يسجي الغلي ويروي غلة الصادي على تعابير قصيدته التي عنوانها (مليط).
الرحلة تضرب في أعماقها لقافلة تئن ، يتقاطع خلالها السراب ، هي تيمم شطر الشمال حيث أمل رجال من السودان إلى حياة أشبه بالاغتراب في ليبيا خلف الموت وخلف الصحراء على وصف اسحاق موسى صاحب اسحاقيات يصف الابسماك ( باشباه مغتربين).
وسفن الصحراء هي التي من تتولى هذه المهمة .تستغرق الرحلة بين مدينة مليط في منتهى مرتفعات جبال الميدوب بشمال غرب إقليم دارفور إلى مرتفعات العيونات شهرا كاملا. ولكن الرحلة محطات مثل الثورة . التي تعلمنا بنفسها انها محطات. والجمال مرة أخرى هي من تصمد شهرا في المسيرة عبر الرمال نحو الأمل . والرجال جمال يتحملون الصعاب في الثورات فهم الصمود في المشقات .و علي الراكبين تعلم الصبر في قطع مسافة ألف وستمائة كيلوا متر حتى الحدود الليبية .
(الخبير) هو رجل خبر طريق الصحراء بين البلدين .يكون موقر بين الرحالة مهنته إيصال القافلة من مليط إلى العيونات هو يكون قد مرة على الطريق أكثر من مرة .يعطى مقابل ذلك من جميع أعضاء القافلة تكاليفه. لكن الآثار تمحوها الرياح فيستعين الخبير بدوره بنجوم القطب الشمالية في السماء كي تدله وترشده في الرحلات. (العقرب) (الدلو)و(الانقريب) (سعين جلو) تلك النجوم من سكان درب التبانة ، انها رفيقات الليل مع المسافرين في الصحراء . ودليل الخبير .والخبير الدليل هو من يأمر وينهي إذ انه أمير الرحلة ، وهو الذي يعرف كم بعير يعطش ثم يسقى وكيفية المحافظة على الماء المحمول على ظهور الإبل وبطونها كي تفي للرحلة . وكذالك عليه المحافظة على حياة قافلته بكل الأثمان .
اوائل الشتاء من كل عام قوافل كثيرة تخرج من حول مدينة مليط ، تمر على بلدتي (مدو) و(أبو قران) تراها تعانق عباب الصحراء .وعبر بلدة (الصياح ) إلى (المالحة) أنت وسط جبال الميدوب . يقع الوادي الميت (المجرور) في الجنوب وفي اليمين الوادي الميت الاخر (هور) . من هناك تبدا الرحالة في وداع الكثبات العفر وما ابهى مناظرها انس لذي وحشة و زاد لمرتاد .
تستقبلك المرتفعات اوالتلال الملحقة بجبال الميدوب . اشهرها جبل (عيسا) الى الشمال الغربي. والصياح والمالحة من أعمال جبال الميدوب هي ضمن جبال الحضارات الخمس العظمى في شبه القارة السودانية التي تمثل بواكير حضارة الانسان الاول . وتمتد حياتها لفوق خمسة عشر ألف سنة تقديرا حين انطلقت حضارة الإنسان الأول من السودان الحالي. وعلى أعتاب جبال الميدوب كان رحلة القائد الروماني هاركوفا قبل الميلاد بتاريخ طويل.
و جبال الميدوب هضبة يعتقد انها على ارض براكينية غير نشطة يتفرق حولها سلاسل ممتدة صغيرة . ويعتقد انها امتداد من جبال مرة في الجنوب منها تقدر مساحتها 110 كلم طولا 70 كلم عرضا ويجري بوسطه انهر صغيرة وشلالات ،وعيون ماء عذبة واخرى مالحة .وتكسها اشجار مخضرة يعيش بوسطها معز متوحشة .
هضبة الميدوب منطقة أثرية غير إنها لم تكتشف الكثير فيها بعد . وهي قاحلة الأطراف لكنها أهلة بالسكان في الوسط .غنية بالبحيرات العذبة والمالحة .يمتهن سكانه تربية الإبل ويعيشون شبه رعاة بتخوم الصحراء .وشظف العيش هي الحالة تلك ما تخلق منهم محاربي الصحراء الأشداء راجع قصة (الميدوب محاربي الصحراء).
وذكر في حلة هاركوفا ان وصل الى الجبال وحاول ان تكون هناك علاقة بين المنطقة بروما عبر ايجيبت بواسطة طريق صحراوي عرف فيما بعد باسم الأربعين ينتهي الطريق إلى مصر. (راجع سلسلة جبال مرة)
نحن نغادر الجبال تدخل القافلة في صحراء الميدوب من أجزء الصحراء الكبرى.وتضرب اطناب الإبل عبر بلدتي الحارة و الراهب خمسة أيام بلياليها حتى مدخل النطرون أو العطرون .وهي واحة في عمق الصحراء تناخ الرحالة للماء وللماء تشد الرحال ايضا. لا رفيق على اذني المسافر غير صوت القروية (كلتومة) وهي تبكي الفراق وتصف قساوته أثناء اجراءات وداع أشقائها باغنيها مدخل الفقرة ، وكل على خلوص له في رحلة نحو بلاد (القذافي) . والرحلة لا تزال في أولها
تعانق نجوم السماء من النطرون
يا نجمة في سماء القطب ساهرة سهر المحب العاشق الواهي
يا ليت مرعاك مست عين هاجرتي فتخبريها باني ساهر واهي
النطرون ارض مالحة. وكذالك الاسم . تحمل قوافل اخرى منها صبغة العطرون إلى مدن السودان في اتجاه معاكس ، وبها بحيرات عذبة ومالحة. تخرج القوافل متوجه صوب مليط . الا اننا في الطريق نحو عمق الصحراء. اننا في رحلة إلى ليبيا
العام 79م من القرن المنصرم تكون الرحلة الأولى عبر الصحراء لفتيان لا يزالون عذب المحيا . اعضاء القاحلة إلى ليبيا الرحلة تبقى محفورة بالذاكرة . شبان وشيب بدؤا رحلتهم على ظهور الجمال من شمال وشرقي بلدة (كاس) جنوب جبال مرة . من سلسلة قرى صغيرة وبداوة اسماءها (داوس) و (سلنقا) (القردود) و (كدنجير) (حمراية) و(جبال كارقو) . قرى وبادية تحفها الجنان . ويقال ان الله خلقهن أغنيات . الا ان الحياة تفرض على رجالها شيبا وشبابا مغادرتها مكرهين صوب المستقبل الأوفر حظا للرجال . ليبيا هو مستقبل الزمن لهؤلاء البؤساء .على ظهور جمال (مربية ) يغادرون تلك القرى والأغاني الشيقة الحزينة على أفواه النساء المودعات لهم هي من تبقى في الذكرى مرددة.
نغادر النطرون نريد واحة (النخيلة) احد اقل الواحات على امتداد الصحراء تجد فيها الماء . والخبير من يعدل سير الرحلة خلف نجوم القطب ان ضلت . هناك معالم تسير عليها القافلة كي لا تضل . إذا أوغلت الرحلة إلى الغرب كثيرا من ما بعد النطرون ستضل القافلة الطريق .
على امتداد الصحراء الهادئة في الليل . وعلى ضؤ النجوم الساطعة الساكنة يطيب السير ويحلو السمر. في الليل يبرد الجو كثيرا ولا يسمع إلا أزيف الرياح و صوت الحادي يرتل من نشيج (الحردلوا) . يجيد الكل إبداعات (الدوبيت) عن الملاحم والشهامة والرجولة والحب العفيف بغرب السودان . والدوبيت أزيز يخرج من صدور الرجال في جوف الليل يحمل الهم والشوق والصبر والحنين .أغاني نقية مشبوبة بألآلم الفراق ولوعات الشوق. حكايات تصبر وهي للصبر الذي لا غيره سوى الصبر على طريقة صبر المطايا التي تحمل المهاجرين المسافرين إلى ليبيا.
واحة النخيلة
هكذا يعد لنا القدر المسافة برزخا متفجرا وصواعقا .
وسنستنيخ على الربا زهوا
ونمضي لبعيد الشوق يحملنا معا أحلامنا وآمالنا المتدفقة .
تستريح الإبل قليلا هنا في واحة النخيلة، وتتزود القافلة بالماء لبد الرحلة من جديد . يمكن للبعض الاستحمام في الواحة والاستجمام كثيرا .يكون قد مضى على رحلتنا أسبوعان قطعنا نصف المسافة . والجميع لاقى من عنت السفر ما لاقا. ما بعد واحة النخيلة طريق لا ماء فيه. نوغل نحو الشمال مع نجمة القطب .والخبير من يحسن الطريق فإذا زاد عطش القافلة وقل الماء جنح بالركب نحو الشرق ، وذلك يزيد من احتمالات توفر الماء بالواحات الضالة . بين الثلاثة إلى أربعة أيام تمضى الرحلة إلى الشوق البعيد نحو المحطة القادمة.
كربلاء وكرب التوم
(بل هذا كرب وبلاء . كأني بهم هنا أناخوا رحالهم وهنا تقطع رؤوسهم . وهنا تبقى تفور دمائهم ، كأني أراهم غير أني لا اعرف من يكونون ) في عام 50 من بعث النبي سنة 649 م هكذا يقول الإمام علي كرم الله وجه وهو بموضع كربلاء يصف المكان ويتراء له الاحداث القادمة بكربلاء. ذلك خلال رحلته من المنورة إلى الكوفة التي لم يعد منها. بعد أربعين سنة تكون كربلاء الصحراوية القاحلة تلك موضع يذبح فيه السبعين من أنجاله وأسباط ابن عمه محمد النبي الكريم ويقطع راس كبيرهم نجله الحسين بن علي.
ما أشبه كربلاء الصحراء بصحراء ما بعد كرب التوم . هناك يناخوا رحالهم وهناك يوزع العطش والجوع عظامهم وتتفضل ريح الصحراء بأرومة دفن بعضهم ثم تخرجهم في عبثية الزمان مع الرخصاء .المنطقة الوحيدة في عمق الصحراء تخشاها القوافل هي ما بعد كرب التوم نحو جبال العيونات عند الحدود الليبية .شديدة القحولة شقية جدا. معظم من ضل الطريق كان ما بعد الكرب مات وماتت رحالهم. هنا عظام لسودانيين في زمن الذلة يتوزع مع الرياح على الرمال زمن يقطع فيه رؤوسهم أينما يكونون. يموتون . إن لم يمت احدهم بالذل في بيته مات بغيرهتعددت الأسباب والموت واحد.
المسافة ستمائة كليو متر على الرمال قد قطعات إلى هنا ، وما بقي حتى مدينة الكفرة أطول مما مضى وكثير ما ترك البعض رفات رفاقهم دون دفن .الصحراء من تتولى ذلك. وكم يتساءل المرء ما الذي يدفعه لترك أشلائه على طول الصحراء . ولكن في كل الأحيان يكون الأحياء مضطرون لمغادرة الأموات .
الصحراء والصحراء ثم الصحراء.
يبقى في الذاكرة الحية أغاني (ارجون) الصغيرة التي تشغل أغاني القرى الشجية بحلاوة لحنها وعذوبة صوتها.ارجون الصغيرة ملكة الغناء في قرية (سانبيل) غربي بلدة ( كبكابية) الصغيرة .كانت تتصور شظف الحياة وشدة الظمأ المميت ومشقة تلاقي أشقائها فيما بعد الكرب .هي تتمنى أن تكون زير ماء في الطريق إلى ليبيا لولاة أمرها هكذا تترجم النص مدخل الفقرة . وتتمنى أن تسافر بالطائرة لان السفر عبر الجمال قاسي ، وتتمنى ان لا تلاقيه ا. لا تكون لمقاطعها عذوبتها وسلاستها الا في ميدان (الكشوك) أو (الحجوري) حيث قيل وبأصوات الصغيرات رصيفات ارجون. تبقى في الذاكرة شدوها وأنغامها تسعفنا طوال الرحلة.
وهي جملة من ملاحم أغاني القرى الغربية في السودان تأرخ السفر إلى ليبيا عبر الجمال والشاحنات وحتى دخول عصر الطائرات إلى ليبيا . يبين أهمية وانشغال الناس به كثيرا في إقليم دارفور. ارجون الصغيرة كانت تشارك في تأاريخ لهذه المرحلة الصعبة من تاريخ الإقليم. وحفظت جميع تلك المراحل في أعمال محلية في ميادين المراقص الليلية في اقاليم الغرب السوداني مثلها في (الجراري) و(الدريكا) و(السنجك) و (الجكتك).
عبر العيينات إلى الكفرة
هو الطريق عبر صحراء السماوة من قرب المدائن حاضرة كسرى انشوران غربي نهر دجلة إلى ملم اليرموك في الرحلة الشاقة التي يقطع فيها خالد بن الوليد الطريق في ثمانية أيام بدل أسبوعان ونيف . في عام 42 من بعثة النبي. 627م و ابوبكر بن أبي قحافة الصديق الخليفة يأمر قائده خالدا أن يدرك أخاه اباعبيدة بن الجراح في ملتقى جسر اليرموك عند سوريا ببطن الشام . جند أبا عبيدة يحاصرهم جند الروم من كل صوب. وأبو عبيدة يرسل الى رئيس الدولة في المنورة يقول مستغيثا في عبارات (جند الروم تحاصرني . نريد مدد والسلام) . ابوبكر يفكر ثم يقدر ثم يرسي على امر .يقول لاهل مشورته (سأقلق مضاجع الروم بخالد) . أربعة آلف فارس مع خالد وألف بعير تعطش ثم تسقى ثم تبدأ الرحلة المخاطرة عبر بادية السماوة من العراق إلى الهلال الخصيب في سبعة أيام بليليها . كانت معجزة. لكن خالد فعلها . إلى مدخل العيونات إلى مدينة الكفرة مثل الطريق عبر السماوة تلك . ستنحر ابل بعض القوافل مجموعات وفرادا طوال الطريق . يأكلون لحومها ويشربون المياه المخزنة في أمعائها .لكن الخبير هو من يرشد استخدام الماء ويرفق بالمسير.
حينما يتشرف الرحلة النهاية يكون الزاد والإبل مخازن الماء قد نضب. ويبقى المطايا.
عند ملتقى خطي عرض وطول 25ق مع22 ش يقع جبال العيونات هي اراضي سودانية لكن دون وجود خط حدودي مرسم بين البلدين صارت ليبية . لكن الرحالة لها ثلاثة طرق إلى الكفرة بالتسلل يعرفها الخبر .عبر البحيرة المصرية شمال العيونات أو جنوب الجبال . أو حين يكونون مضطرين ، ويخشون الظمأ يلحق بالقافلة يلتقون السلطات الليبية عند مدخل الجبال .
ارض جرداء و جبال متراكمة .هي العيونات المنطقة الحدودية التي تشكل نقطة ملتقى الدول الثلاث . علي صخورها الرسوبية رسومات ووشم تقدر بسبعة ألف سنة ، و ذات الوشم في ظاهر اليد هي ما تستخدمه شعب المساليت والتاما سكان جنة المدائن (جننة اندوكا) في ادارفور الغرب .
يلتقي الناس عن مدخله الحمر المتوحشة والأغنام والكلاب المتوحشة أيضا . يكون الطريق سالكة إلى الكفرة ثلاثمائة وستون كيلومتر بذات المشقة.
والطريق إلى مدينة الكفرة رغم انه ثلاثمائة كليو متر لكنه يكون سهل واقرب في حالة تسليم المتسللون الجمالة أنفسهم للسلطات الليبية عند مدخل العيونات يحمل المسافرون سيارات السلطات الليبية إلى مدينة الكفرة في الجنوب الليبي.
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الحصى فلها علينا حرمة وزمام
على نحو قول بشار بن البرد عند ملتقى الحدود السودانية الليبية هضبة العينات (1852 قدم) تنزل من ظهور ال مطايا الحمولات إلى الأبد بالنسبة لها ، كي تساق إلى مناحر لكن دون مقابل لأصحابها في الكثير من الأحيان.
يكون بامكان الليبيون محاسبة المتسللون عبر الحدود وسجنهم وابلاغ سلطات بلادهم في بعثاتها في طرابلس لكن لا بعثة سودانية في ليبيا مسئولة عن رعايا بلادها . فالسودان يحيا في زمن الفوضى والانكسار. لا احد من المتسللين يملك وثيقة شخصية ثبوتية لان الدولة لا تستطيع توفير وثيقة لرجل لم يولد بمستشفى ،و لأنه ليس هناك مستشفى يولد به كي تكون له وثيقة ميلاد . والدولة التي يحكمها من لا يعرفونها يجهلون تاريخ شعبها يخجلون أو يتواقحون في استخراج شهادات ثبوتية لمواطن سوداني إلا بشاهدي عدل و القسم على كتاب الله .
وفي العيونات وما بعدها تجد دولة لها من المؤسسات جيش الحدود وشرطة . تتأكد انك قدمت من زريبة أو قل حظيرة موت كذالك يوصف السودان لكن في كل الأحوال لا يمكن أن توصف السودان بأنه دولة تنطبق عليه شروط الدولة قانونيا وواقعيا. اهلا بك في ليبيا
ثلاث فرق
في ليبيا انقسم السودانيون الى ثلاث فرق كبيرة ؛ فرق بعضها ضياع نهائي ؛ كل يقرر مصير حياته عبر هذه الثلاث او قل ينهي حياته في بعضها .
1. التسلل الى ايطاليا .
2. البقاء في ليبيا .
3. العودة الى السودان .
سنذكر حلقة واحدة من معاناة السودانيين في ليبيا هنا ؛ وهو السفر عبر البحر ؛ وسنعود نكمل الحلقات التالية بكل أحوالهم لاحقا .
مخاطرة أخرى عبر البحر
إذا ما عجزت الصحراء في المحافظة على حياتك فان البحر غدار كما يلقب؛ انه تطعمك سكانه وهو أيضا مكرمة للباحثين عن جنات الدنيا فيما وراء البحار كما يراها كاتب عمود ( اسحاقيات) بالمركز المعاصر إسحاق موسى .فيما بعد عام 2000 بدأت رحلات التسلل عبر ليبيا إلى ايطاليا من اؤلائك الابسماك السودانيين راجع (أشباه مغتربين). سنورد مقالة الرفيق اسحاق في وصف المتسللين الى ايطاليا .
شبان يسكنهم الرغبة العارمة للمعرفة . هي صفة الغرابة الابسماك .وتكون ليبيا النافذة التي مكنتهم من النظر إلى العالم في وضعه الحقيقي والعالم المعاصر المتميز بالتعليم والمعرفة ؛ اتيحت لهم الفرصة ان يجدوا شيئ اسمه جهاز التلفزيون والكهرباء ؛ والمياه ؛ وأشياء كثيرة من هذا القبيل مما أنتجتها الحضارة المدنية في ثورتها لهذا القرن ؛ كل العالم مشارك وجزء من النهضة ؛ كال العامل مستفيد من هذا التطور ؛ حتى الليبيون الذين يضحوا رغم غناهم الفاحش متخلفين جدا في التعامل مع منتجات الحضارة المدنية – يضحون ملمين وجزء من النهض العصرية ؛ إذن إلا السودانيين ؛ هؤلاء السودانة الذين عاشوا طوال القرن العشرين والانسانية في داخل علبة مغلقة ثقافيا ومعرفيا ؛ تسمى مجازا بالسودان ؛ ويملك مفتاح العلبة الخرطوميين مديري مؤسسة الجلابية الاستعمارية .
هنا في ليبيا تمكن الشبان السوداني من اكتشاف أنفسهم ؛ تمكنوا من اكتساب قدر من الوعي بمشكل دولتهم . هكذا قرروا الرحلة الى ايطاليا عبر البحر ؛ ايضا بالتهريب . كان هف الالمام بمادئ الكتابة والقراءة والتطور هي رغبة الغالبية العظمى من الشبان السودانيين العابر إلى ايطاليا عبر البحر الأوسط من شواطئ المدن الليبية في الخمس وزوارا ؛ وهذه اكثر مدن الساحل الليبي تصديرا للمتسللين الى شيشيليا الخضراء .
البقاء في ليبيا
هؤلاء قاموا باعمال جليلة في ليبيا ؛ بالامكان قول انهم بنوا ليبيا الحديثة عمال بناء وعمال متاجر وخدمات منازل ؛ تتمحور عملهم حول الرعي والعمل في المزارع ؛ والخدمة في المنشات العامة ؛ وادارة المحال التجارية . وكذالك يديرون تجارة بينية في اسواقهم العامرة في الكفرة وبنغازي وطرابلس الغرب وسبها والمدن الاخرى .
بعضهم عاش منذ دخول الرحلات من عام 1990 ف .
المكتسبات الوعي الجديدة صنعت لدى البعض تشويشا حقيقيا في تحديد ما يجب فعله ؛ وسؤ الحياة في بلد ليس به قانون مدني متطور سيرهم الى عبيد يخدمون دون مقابل ؛ وفي الغالب لا يتمكنون من التعامل مع الليبيين بتعالي و تقبل لفظة عبيد او عبيدات فالجميع يدخولن في معارك فردية تنتهي موت السوداني غالبا او وراء القضبان في حالة مقتل الليبيين . والذين لم يتمكنوا من بلوغ شواطئ ايطاليا يعودون الى ليبيا ليبقوا في السجون في حياة قاسية بلا رحمة . هذه حياة غالب السودانيين في ليبيا في المدن والشعبيات .
وقعت خلال حقبة العشرين سنة الماضية ثلاث من اسؤ الكوارث في حياة هؤلاء السودانين ؛ الكشات لسة 1995 ف ؛ ومجزرة الزاوية ؛ والكشات لعام 2003 ف .
العودة الى السودان
البعض من اؤلائك الشبان يفضلون العودة إلى السودان مع ما يشعرون به من سؤ في الديار بعد مضي عامين او ثلاث ؛ يفكر البعض في العودة الى الديار ؛ يشترى مما كسبه من دخل خلال السنوات الماضية التي تبلغ الف ولار سنويا بالقريب . وعبر رحلات على ظهور الشاحنات الأكثر استغرابا في الكرة الأرضية. شاحنات الابسماك. تصل رحلاتهم إلى (مليط ) أو (الطينة) . يعودون وهم محملين( بنفايات) الدولة الليبية كما توصف (القمم ) و(البرزات) يحكيها الليبيين .من جملة (الدبش ) غير أن تلك (النفايات) بوصف زعيم عربي لهم- تعني لهم أشياء ذات قيمة .
سيعودون ليواصل البعض رحلة الحياة في ظل الاستعمار الداخلي في السودان ؛ القائم على التهميش والظلم والتحقير من دولة هم رعاياها سيعودون من جديد الى ليبيا بعد شهر .
منعم سليمان
مركز دراسات السودان المعاصر
(1) على ظهور الجمال
بين مدنية الكفرة في الصحراء صعيد ليبيا وأم المدائن (الفاشر) أبو زكريا تواصل قديم قدم التاريخ . وشهدت خلال الثورات التي انطلقت من جنوب ليبيا ممثلة في النهضة السنوسية ،تواصلا عهد الدولة الاتحادية الاسلامية في دارفور ثم
الثورة المهدية في الغرب ثم الدولة الدينارية في دارفور تواصلا بين شعبي البلدين . غير أن عام 73 م من القرن الماضي ثورة الفاتح الليبية تضيف لأنجزاها إنجاز فيشهد التواصل شكل جديد. يتعاظم إنتاج النفط في الحقول الصحراوية الليبية ،وتزيد من نسب كمياته المصدرة ، وتزيد دخل المواطن في ليبيا ، فيفتح الطرق للأيدي أجنبية عاملة. ويكون السودان -كعهده رجل إفريقيا المريض وزيل العرب - مصدر العمالة بصفته مخزن البطالة البشرية في القارة وامجتمع العربي.
عام 73م هو العام الذي وجد فيه السودانيون من أقاليم غرب السودان طريقهم إلى مصدر رزق كبير تصوره وحياة أفضل انه الطريق الى الخدمة في ليبيا . مفضلين على الخدمة مسترقين في المشاريع الزراعية في إقليم ما بين النهرين وشرق النهر الأزرق (القضارف) . يتحول الغرابة السودانين من شغيلة (الجنقو جورو) إلى المهاجري (سماكس). لكن عليهم قطع مسافة ألف وستمائة كلم عبر الصحراء القاحلة على طريقة الرحلة عبر درب الأربعين إلى مصر في قديم تاريخ من المملكة الاتحادية بإقليم دارفور.
ليبيا يكون حلم لكل الفقراء في القرى الهزيلة بإقليم دارفور إلا انه مكلف جدا . ففي تلك القرى الفقيرة من لا يملك جملا (سديسا) في هذا لزمن وتكلفة الرحلة الست جنيهات سودانية وزاد كاف من كسرة يابسة وذرة مبللة تعده له النسوة سيموت حلمه بالهجر والانتقال إلى (لوبيا) هذا تنطق بالعامية.
تنتهي الرحلات الداخلية إلى مدينة مليط في الركن الشمالي من إقليم دارفور ، و يتجمع الرحالة المسافرين إلى ليبيا في المدينة الرملية من كل بقاء الإقليم قراها وبواديها ومن كردفان ايضا. على متون جمالهم (السديسة) المعدة للرحلة ياتون. قوافل متعددة تستعد للرحيل. وما بعد مدينة مليط قليلا تعطش الإبل أسبوعان ثم تورد الماء . وتنطلق الرحلة مباشرة عقب مورد الإبل الظامئة وقد امتلأت كروشها وحملت على ظهورها ايضا قنن وقراب .
ومليط هي من لها التحية في أشعار الشعر السوداني البدو محمد سعيد العباسي وهو يدعوا الجميع لواديها ذو الجنات . و ما أجمله من وادي . فبه المنظر العجب . يسجي الغلي ويروي غلة الصادي على تعابير قصيدته التي عنوانها (مليط).
الرحلة تضرب في أعماقها لقافلة تئن ، يتقاطع خلالها السراب ، هي تيمم شطر الشمال حيث أمل رجال من السودان إلى حياة أشبه بالاغتراب في ليبيا خلف الموت وخلف الصحراء على وصف اسحاق موسى صاحب اسحاقيات يصف الابسماك ( باشباه مغتربين).
وسفن الصحراء هي التي من تتولى هذه المهمة .تستغرق الرحلة بين مدينة مليط في منتهى مرتفعات جبال الميدوب بشمال غرب إقليم دارفور إلى مرتفعات العيونات شهرا كاملا. ولكن الرحلة محطات مثل الثورة . التي تعلمنا بنفسها انها محطات. والجمال مرة أخرى هي من تصمد شهرا في المسيرة عبر الرمال نحو الأمل . والرجال جمال يتحملون الصعاب في الثورات فهم الصمود في المشقات .و علي الراكبين تعلم الصبر في قطع مسافة ألف وستمائة كيلوا متر حتى الحدود الليبية .
(الخبير) هو رجل خبر طريق الصحراء بين البلدين .يكون موقر بين الرحالة مهنته إيصال القافلة من مليط إلى العيونات هو يكون قد مرة على الطريق أكثر من مرة .يعطى مقابل ذلك من جميع أعضاء القافلة تكاليفه. لكن الآثار تمحوها الرياح فيستعين الخبير بدوره بنجوم القطب الشمالية في السماء كي تدله وترشده في الرحلات. (العقرب) (الدلو)و(الانقريب) (سعين جلو) تلك النجوم من سكان درب التبانة ، انها رفيقات الليل مع المسافرين في الصحراء . ودليل الخبير .والخبير الدليل هو من يأمر وينهي إذ انه أمير الرحلة ، وهو الذي يعرف كم بعير يعطش ثم يسقى وكيفية المحافظة على الماء المحمول على ظهور الإبل وبطونها كي تفي للرحلة . وكذالك عليه المحافظة على حياة قافلته بكل الأثمان .
اوائل الشتاء من كل عام قوافل كثيرة تخرج من حول مدينة مليط ، تمر على بلدتي (مدو) و(أبو قران) تراها تعانق عباب الصحراء .وعبر بلدة (الصياح ) إلى (المالحة) أنت وسط جبال الميدوب . يقع الوادي الميت (المجرور) في الجنوب وفي اليمين الوادي الميت الاخر (هور) . من هناك تبدا الرحالة في وداع الكثبات العفر وما ابهى مناظرها انس لذي وحشة و زاد لمرتاد .
تستقبلك المرتفعات اوالتلال الملحقة بجبال الميدوب . اشهرها جبل (عيسا) الى الشمال الغربي. والصياح والمالحة من أعمال جبال الميدوب هي ضمن جبال الحضارات الخمس العظمى في شبه القارة السودانية التي تمثل بواكير حضارة الانسان الاول . وتمتد حياتها لفوق خمسة عشر ألف سنة تقديرا حين انطلقت حضارة الإنسان الأول من السودان الحالي. وعلى أعتاب جبال الميدوب كان رحلة القائد الروماني هاركوفا قبل الميلاد بتاريخ طويل.
و جبال الميدوب هضبة يعتقد انها على ارض براكينية غير نشطة يتفرق حولها سلاسل ممتدة صغيرة . ويعتقد انها امتداد من جبال مرة في الجنوب منها تقدر مساحتها 110 كلم طولا 70 كلم عرضا ويجري بوسطه انهر صغيرة وشلالات ،وعيون ماء عذبة واخرى مالحة .وتكسها اشجار مخضرة يعيش بوسطها معز متوحشة .
هضبة الميدوب منطقة أثرية غير إنها لم تكتشف الكثير فيها بعد . وهي قاحلة الأطراف لكنها أهلة بالسكان في الوسط .غنية بالبحيرات العذبة والمالحة .يمتهن سكانه تربية الإبل ويعيشون شبه رعاة بتخوم الصحراء .وشظف العيش هي الحالة تلك ما تخلق منهم محاربي الصحراء الأشداء راجع قصة (الميدوب محاربي الصحراء).
وذكر في حلة هاركوفا ان وصل الى الجبال وحاول ان تكون هناك علاقة بين المنطقة بروما عبر ايجيبت بواسطة طريق صحراوي عرف فيما بعد باسم الأربعين ينتهي الطريق إلى مصر. (راجع سلسلة جبال مرة)
نحن نغادر الجبال تدخل القافلة في صحراء الميدوب من أجزء الصحراء الكبرى.وتضرب اطناب الإبل عبر بلدتي الحارة و الراهب خمسة أيام بلياليها حتى مدخل النطرون أو العطرون .وهي واحة في عمق الصحراء تناخ الرحالة للماء وللماء تشد الرحال ايضا. لا رفيق على اذني المسافر غير صوت القروية (كلتومة) وهي تبكي الفراق وتصف قساوته أثناء اجراءات وداع أشقائها باغنيها مدخل الفقرة ، وكل على خلوص له في رحلة نحو بلاد (القذافي) . والرحلة لا تزال في أولها
تعانق نجوم السماء من النطرون
يا نجمة في سماء القطب ساهرة سهر المحب العاشق الواهي
يا ليت مرعاك مست عين هاجرتي فتخبريها باني ساهر واهي
النطرون ارض مالحة. وكذالك الاسم . تحمل قوافل اخرى منها صبغة العطرون إلى مدن السودان في اتجاه معاكس ، وبها بحيرات عذبة ومالحة. تخرج القوافل متوجه صوب مليط . الا اننا في الطريق نحو عمق الصحراء. اننا في رحلة إلى ليبيا
العام 79م من القرن المنصرم تكون الرحلة الأولى عبر الصحراء لفتيان لا يزالون عذب المحيا . اعضاء القاحلة إلى ليبيا الرحلة تبقى محفورة بالذاكرة . شبان وشيب بدؤا رحلتهم على ظهور الجمال من شمال وشرقي بلدة (كاس) جنوب جبال مرة . من سلسلة قرى صغيرة وبداوة اسماءها (داوس) و (سلنقا) (القردود) و (كدنجير) (حمراية) و(جبال كارقو) . قرى وبادية تحفها الجنان . ويقال ان الله خلقهن أغنيات . الا ان الحياة تفرض على رجالها شيبا وشبابا مغادرتها مكرهين صوب المستقبل الأوفر حظا للرجال . ليبيا هو مستقبل الزمن لهؤلاء البؤساء .على ظهور جمال (مربية ) يغادرون تلك القرى والأغاني الشيقة الحزينة على أفواه النساء المودعات لهم هي من تبقى في الذكرى مرددة.
نغادر النطرون نريد واحة (النخيلة) احد اقل الواحات على امتداد الصحراء تجد فيها الماء . والخبير من يعدل سير الرحلة خلف نجوم القطب ان ضلت . هناك معالم تسير عليها القافلة كي لا تضل . إذا أوغلت الرحلة إلى الغرب كثيرا من ما بعد النطرون ستضل القافلة الطريق .
على امتداد الصحراء الهادئة في الليل . وعلى ضؤ النجوم الساطعة الساكنة يطيب السير ويحلو السمر. في الليل يبرد الجو كثيرا ولا يسمع إلا أزيف الرياح و صوت الحادي يرتل من نشيج (الحردلوا) . يجيد الكل إبداعات (الدوبيت) عن الملاحم والشهامة والرجولة والحب العفيف بغرب السودان . والدوبيت أزيز يخرج من صدور الرجال في جوف الليل يحمل الهم والشوق والصبر والحنين .أغاني نقية مشبوبة بألآلم الفراق ولوعات الشوق. حكايات تصبر وهي للصبر الذي لا غيره سوى الصبر على طريقة صبر المطايا التي تحمل المهاجرين المسافرين إلى ليبيا.
واحة النخيلة
هكذا يعد لنا القدر المسافة برزخا متفجرا وصواعقا .
وسنستنيخ على الربا زهوا
ونمضي لبعيد الشوق يحملنا معا أحلامنا وآمالنا المتدفقة .
تستريح الإبل قليلا هنا في واحة النخيلة، وتتزود القافلة بالماء لبد الرحلة من جديد . يمكن للبعض الاستحمام في الواحة والاستجمام كثيرا .يكون قد مضى على رحلتنا أسبوعان قطعنا نصف المسافة . والجميع لاقى من عنت السفر ما لاقا. ما بعد واحة النخيلة طريق لا ماء فيه. نوغل نحو الشمال مع نجمة القطب .والخبير من يحسن الطريق فإذا زاد عطش القافلة وقل الماء جنح بالركب نحو الشرق ، وذلك يزيد من احتمالات توفر الماء بالواحات الضالة . بين الثلاثة إلى أربعة أيام تمضى الرحلة إلى الشوق البعيد نحو المحطة القادمة.
كربلاء وكرب التوم
(بل هذا كرب وبلاء . كأني بهم هنا أناخوا رحالهم وهنا تقطع رؤوسهم . وهنا تبقى تفور دمائهم ، كأني أراهم غير أني لا اعرف من يكونون ) في عام 50 من بعث النبي سنة 649 م هكذا يقول الإمام علي كرم الله وجه وهو بموضع كربلاء يصف المكان ويتراء له الاحداث القادمة بكربلاء. ذلك خلال رحلته من المنورة إلى الكوفة التي لم يعد منها. بعد أربعين سنة تكون كربلاء الصحراوية القاحلة تلك موضع يذبح فيه السبعين من أنجاله وأسباط ابن عمه محمد النبي الكريم ويقطع راس كبيرهم نجله الحسين بن علي.
ما أشبه كربلاء الصحراء بصحراء ما بعد كرب التوم . هناك يناخوا رحالهم وهناك يوزع العطش والجوع عظامهم وتتفضل ريح الصحراء بأرومة دفن بعضهم ثم تخرجهم في عبثية الزمان مع الرخصاء .المنطقة الوحيدة في عمق الصحراء تخشاها القوافل هي ما بعد كرب التوم نحو جبال العيونات عند الحدود الليبية .شديدة القحولة شقية جدا. معظم من ضل الطريق كان ما بعد الكرب مات وماتت رحالهم. هنا عظام لسودانيين في زمن الذلة يتوزع مع الرياح على الرمال زمن يقطع فيه رؤوسهم أينما يكونون. يموتون . إن لم يمت احدهم بالذل في بيته مات بغيرهتعددت الأسباب والموت واحد.
المسافة ستمائة كليو متر على الرمال قد قطعات إلى هنا ، وما بقي حتى مدينة الكفرة أطول مما مضى وكثير ما ترك البعض رفات رفاقهم دون دفن .الصحراء من تتولى ذلك. وكم يتساءل المرء ما الذي يدفعه لترك أشلائه على طول الصحراء . ولكن في كل الأحيان يكون الأحياء مضطرون لمغادرة الأموات .
الصحراء والصحراء ثم الصحراء.
يبقى في الذاكرة الحية أغاني (ارجون) الصغيرة التي تشغل أغاني القرى الشجية بحلاوة لحنها وعذوبة صوتها.ارجون الصغيرة ملكة الغناء في قرية (سانبيل) غربي بلدة ( كبكابية) الصغيرة .كانت تتصور شظف الحياة وشدة الظمأ المميت ومشقة تلاقي أشقائها فيما بعد الكرب .هي تتمنى أن تكون زير ماء في الطريق إلى ليبيا لولاة أمرها هكذا تترجم النص مدخل الفقرة . وتتمنى أن تسافر بالطائرة لان السفر عبر الجمال قاسي ، وتتمنى ان لا تلاقيه ا. لا تكون لمقاطعها عذوبتها وسلاستها الا في ميدان (الكشوك) أو (الحجوري) حيث قيل وبأصوات الصغيرات رصيفات ارجون. تبقى في الذاكرة شدوها وأنغامها تسعفنا طوال الرحلة.
وهي جملة من ملاحم أغاني القرى الغربية في السودان تأرخ السفر إلى ليبيا عبر الجمال والشاحنات وحتى دخول عصر الطائرات إلى ليبيا . يبين أهمية وانشغال الناس به كثيرا في إقليم دارفور. ارجون الصغيرة كانت تشارك في تأاريخ لهذه المرحلة الصعبة من تاريخ الإقليم. وحفظت جميع تلك المراحل في أعمال محلية في ميادين المراقص الليلية في اقاليم الغرب السوداني مثلها في (الجراري) و(الدريكا) و(السنجك) و (الجكتك).
عبر العيينات إلى الكفرة
هو الطريق عبر صحراء السماوة من قرب المدائن حاضرة كسرى انشوران غربي نهر دجلة إلى ملم اليرموك في الرحلة الشاقة التي يقطع فيها خالد بن الوليد الطريق في ثمانية أيام بدل أسبوعان ونيف . في عام 42 من بعثة النبي. 627م و ابوبكر بن أبي قحافة الصديق الخليفة يأمر قائده خالدا أن يدرك أخاه اباعبيدة بن الجراح في ملتقى جسر اليرموك عند سوريا ببطن الشام . جند أبا عبيدة يحاصرهم جند الروم من كل صوب. وأبو عبيدة يرسل الى رئيس الدولة في المنورة يقول مستغيثا في عبارات (جند الروم تحاصرني . نريد مدد والسلام) . ابوبكر يفكر ثم يقدر ثم يرسي على امر .يقول لاهل مشورته (سأقلق مضاجع الروم بخالد) . أربعة آلف فارس مع خالد وألف بعير تعطش ثم تسقى ثم تبدأ الرحلة المخاطرة عبر بادية السماوة من العراق إلى الهلال الخصيب في سبعة أيام بليليها . كانت معجزة. لكن خالد فعلها . إلى مدخل العيونات إلى مدينة الكفرة مثل الطريق عبر السماوة تلك . ستنحر ابل بعض القوافل مجموعات وفرادا طوال الطريق . يأكلون لحومها ويشربون المياه المخزنة في أمعائها .لكن الخبير هو من يرشد استخدام الماء ويرفق بالمسير.
حينما يتشرف الرحلة النهاية يكون الزاد والإبل مخازن الماء قد نضب. ويبقى المطايا.
عند ملتقى خطي عرض وطول 25ق مع22 ش يقع جبال العيونات هي اراضي سودانية لكن دون وجود خط حدودي مرسم بين البلدين صارت ليبية . لكن الرحالة لها ثلاثة طرق إلى الكفرة بالتسلل يعرفها الخبر .عبر البحيرة المصرية شمال العيونات أو جنوب الجبال . أو حين يكونون مضطرين ، ويخشون الظمأ يلحق بالقافلة يلتقون السلطات الليبية عند مدخل الجبال .
ارض جرداء و جبال متراكمة .هي العيونات المنطقة الحدودية التي تشكل نقطة ملتقى الدول الثلاث . علي صخورها الرسوبية رسومات ووشم تقدر بسبعة ألف سنة ، و ذات الوشم في ظاهر اليد هي ما تستخدمه شعب المساليت والتاما سكان جنة المدائن (جننة اندوكا) في ادارفور الغرب .
يلتقي الناس عن مدخله الحمر المتوحشة والأغنام والكلاب المتوحشة أيضا . يكون الطريق سالكة إلى الكفرة ثلاثمائة وستون كيلومتر بذات المشقة.
والطريق إلى مدينة الكفرة رغم انه ثلاثمائة كليو متر لكنه يكون سهل واقرب في حالة تسليم المتسللون الجمالة أنفسهم للسلطات الليبية عند مدخل العيونات يحمل المسافرون سيارات السلطات الليبية إلى مدينة الكفرة في الجنوب الليبي.
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الحصى فلها علينا حرمة وزمام
على نحو قول بشار بن البرد عند ملتقى الحدود السودانية الليبية هضبة العينات (1852 قدم) تنزل من ظهور ال مطايا الحمولات إلى الأبد بالنسبة لها ، كي تساق إلى مناحر لكن دون مقابل لأصحابها في الكثير من الأحيان.
يكون بامكان الليبيون محاسبة المتسللون عبر الحدود وسجنهم وابلاغ سلطات بلادهم في بعثاتها في طرابلس لكن لا بعثة سودانية في ليبيا مسئولة عن رعايا بلادها . فالسودان يحيا في زمن الفوضى والانكسار. لا احد من المتسللين يملك وثيقة شخصية ثبوتية لان الدولة لا تستطيع توفير وثيقة لرجل لم يولد بمستشفى ،و لأنه ليس هناك مستشفى يولد به كي تكون له وثيقة ميلاد . والدولة التي يحكمها من لا يعرفونها يجهلون تاريخ شعبها يخجلون أو يتواقحون في استخراج شهادات ثبوتية لمواطن سوداني إلا بشاهدي عدل و القسم على كتاب الله .
وفي العيونات وما بعدها تجد دولة لها من المؤسسات جيش الحدود وشرطة . تتأكد انك قدمت من زريبة أو قل حظيرة موت كذالك يوصف السودان لكن في كل الأحوال لا يمكن أن توصف السودان بأنه دولة تنطبق عليه شروط الدولة قانونيا وواقعيا. اهلا بك في ليبيا
ثلاث فرق
في ليبيا انقسم السودانيون الى ثلاث فرق كبيرة ؛ فرق بعضها ضياع نهائي ؛ كل يقرر مصير حياته عبر هذه الثلاث او قل ينهي حياته في بعضها .
1. التسلل الى ايطاليا .
2. البقاء في ليبيا .
3. العودة الى السودان .
سنذكر حلقة واحدة من معاناة السودانيين في ليبيا هنا ؛ وهو السفر عبر البحر ؛ وسنعود نكمل الحلقات التالية بكل أحوالهم لاحقا .
مخاطرة أخرى عبر البحر
إذا ما عجزت الصحراء في المحافظة على حياتك فان البحر غدار كما يلقب؛ انه تطعمك سكانه وهو أيضا مكرمة للباحثين عن جنات الدنيا فيما وراء البحار كما يراها كاتب عمود ( اسحاقيات) بالمركز المعاصر إسحاق موسى .فيما بعد عام 2000 بدأت رحلات التسلل عبر ليبيا إلى ايطاليا من اؤلائك الابسماك السودانيين راجع (أشباه مغتربين). سنورد مقالة الرفيق اسحاق في وصف المتسللين الى ايطاليا .
شبان يسكنهم الرغبة العارمة للمعرفة . هي صفة الغرابة الابسماك .وتكون ليبيا النافذة التي مكنتهم من النظر إلى العالم في وضعه الحقيقي والعالم المعاصر المتميز بالتعليم والمعرفة ؛ اتيحت لهم الفرصة ان يجدوا شيئ اسمه جهاز التلفزيون والكهرباء ؛ والمياه ؛ وأشياء كثيرة من هذا القبيل مما أنتجتها الحضارة المدنية في ثورتها لهذا القرن ؛ كل العالم مشارك وجزء من النهضة ؛ كال العامل مستفيد من هذا التطور ؛ حتى الليبيون الذين يضحوا رغم غناهم الفاحش متخلفين جدا في التعامل مع منتجات الحضارة المدنية – يضحون ملمين وجزء من النهض العصرية ؛ إذن إلا السودانيين ؛ هؤلاء السودانة الذين عاشوا طوال القرن العشرين والانسانية في داخل علبة مغلقة ثقافيا ومعرفيا ؛ تسمى مجازا بالسودان ؛ ويملك مفتاح العلبة الخرطوميين مديري مؤسسة الجلابية الاستعمارية .
هنا في ليبيا تمكن الشبان السوداني من اكتشاف أنفسهم ؛ تمكنوا من اكتساب قدر من الوعي بمشكل دولتهم . هكذا قرروا الرحلة الى ايطاليا عبر البحر ؛ ايضا بالتهريب . كان هف الالمام بمادئ الكتابة والقراءة والتطور هي رغبة الغالبية العظمى من الشبان السودانيين العابر إلى ايطاليا عبر البحر الأوسط من شواطئ المدن الليبية في الخمس وزوارا ؛ وهذه اكثر مدن الساحل الليبي تصديرا للمتسللين الى شيشيليا الخضراء .
البقاء في ليبيا
هؤلاء قاموا باعمال جليلة في ليبيا ؛ بالامكان قول انهم بنوا ليبيا الحديثة عمال بناء وعمال متاجر وخدمات منازل ؛ تتمحور عملهم حول الرعي والعمل في المزارع ؛ والخدمة في المنشات العامة ؛ وادارة المحال التجارية . وكذالك يديرون تجارة بينية في اسواقهم العامرة في الكفرة وبنغازي وطرابلس الغرب وسبها والمدن الاخرى .
بعضهم عاش منذ دخول الرحلات من عام 1990 ف .
المكتسبات الوعي الجديدة صنعت لدى البعض تشويشا حقيقيا في تحديد ما يجب فعله ؛ وسؤ الحياة في بلد ليس به قانون مدني متطور سيرهم الى عبيد يخدمون دون مقابل ؛ وفي الغالب لا يتمكنون من التعامل مع الليبيين بتعالي و تقبل لفظة عبيد او عبيدات فالجميع يدخولن في معارك فردية تنتهي موت السوداني غالبا او وراء القضبان في حالة مقتل الليبيين . والذين لم يتمكنوا من بلوغ شواطئ ايطاليا يعودون الى ليبيا ليبقوا في السجون في حياة قاسية بلا رحمة . هذه حياة غالب السودانيين في ليبيا في المدن والشعبيات .
وقعت خلال حقبة العشرين سنة الماضية ثلاث من اسؤ الكوارث في حياة هؤلاء السودانين ؛ الكشات لسة 1995 ف ؛ ومجزرة الزاوية ؛ والكشات لعام 2003 ف .
العودة الى السودان
البعض من اؤلائك الشبان يفضلون العودة إلى السودان مع ما يشعرون به من سؤ في الديار بعد مضي عامين او ثلاث ؛ يفكر البعض في العودة الى الديار ؛ يشترى مما كسبه من دخل خلال السنوات الماضية التي تبلغ الف ولار سنويا بالقريب . وعبر رحلات على ظهور الشاحنات الأكثر استغرابا في الكرة الأرضية. شاحنات الابسماك. تصل رحلاتهم إلى (مليط ) أو (الطينة) . يعودون وهم محملين( بنفايات) الدولة الليبية كما توصف (القمم ) و(البرزات) يحكيها الليبيين .من جملة (الدبش ) غير أن تلك (النفايات) بوصف زعيم عربي لهم- تعني لهم أشياء ذات قيمة .
سيعودون ليواصل البعض رحلة الحياة في ظل الاستعمار الداخلي في السودان ؛ القائم على التهميش والظلم والتحقير من دولة هم رعاياها سيعودون من جديد الى ليبيا بعد شهر .
منعم سليمان
مركز دراسات السودان المعاصر
الثلاثاء يونيو 21, 2016 5:43 pm من طرف مالك ادم
» لماذا نكتب ؟! ولماذا لا يكتبون
الثلاثاء يونيو 21, 2016 5:26 pm من طرف مالك ادم
» Inrtoduction to Midob Tribe
الخميس أكتوبر 23, 2014 9:10 am من طرف Rashid Abdelrhman Ali
» الشباب والنوع الاجتماعى
الأحد مايو 25, 2014 3:45 pm من طرف alika hassan
» رئاسة الجمهورية تصدر بيانا حول التناول السالب للقضايا الأمنية والعسكرية والعدلية
الثلاثاء مايو 20, 2014 2:08 pm من طرف مالك ادم
» مفهوم الردة في الإسلام
الإثنين مايو 19, 2014 2:54 pm من طرف مالك ادم
» عيد مبارك عليكم
الجمعة أكتوبر 25, 2013 5:54 am من طرف omeimashigiry
» التحضير للمؤتمر الجامع لقبيلة الميدوب
الأربعاء أكتوبر 16, 2013 1:33 pm من طرف Rashid Abdelrhman Ali
» ماذا يجب أن نفعله في رمضان؟
الأربعاء سبتمبر 11, 2013 11:26 pm من طرف مالك ادم